فصل: باب المفعول له(br)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: خزانة الأدب وغاية الأرب ***


باب المفعول له

أنشد فيه، وهو الشاهد السابع والسبعون بعد المائة وهو من شواهد سيبويه‏:‏

يركب كل عاقر جمهور *** مخافة وزعل المحبور

والهول من تهول الهبور

على أن زعل المحبور والهول مفعول لأجله‏.‏ وفيه رد على الجرمي في زعمه أن المسمى مفعولاً لأجله هو حال‏.‏ فيلزم تنكيره‏.‏

وبيان الرد‏:‏ أن الأول معرف بالإضافة، وهي إضافة معنوية؛ والثاني معرف بأل، فلا يكونان حالين، فتعين أن يكون كل منهما مفعولاً لأجله‏.‏

وقال ابن بري في شرح أبيات الإيضاح‏:‏ وانتصاب مخافة، وزعل والهول، المعطوفين عليه، على المفعول له‏.‏ وأصله اللام، فلما سقط الخافض تعدى إليه الفعل‏.‏ والرياشي زعم أنه لا يكون إلا نكرة كالحال والتمييز‏.‏ وسيبويه يجيز الأمرين‏.‏ انتهى‏.‏

وهذا من أرجوزة للعجاج‏.‏ شبه بعيره في السرعة بالثور الوحشي الموصوف بهذا الوصف‏.‏ فقوله‏:‏ يركب فاعله ضمير الثور الوحشي الذي خاف من الصياد فذهب على وجهه مسرعاً، يصعد تلال الرمل، ويعتسف المشاق‏.‏ والعاقر‏:‏ العظيم من الرمل الذي لا ينبت شيئاً، شبه بالعاقر التي لا تلد‏.‏

قال أبو عبيدة‏:‏ العاقر من الرمل‏:‏ العظيم‏.‏ وقال غيره‏:‏ المشرف الطويل‏.‏ وهذا التفسير كله واحد؛ لأن المشرف الطويل والرمل العظيم لا ينبت، لعدم التراب والرطوبة التي يكسبها المطمئن السهل من الرمل‏.‏ والجمهور بالضم‏:‏ الرملة المشرفة على ما حولها، وهي المجتمعة؛ وهو صفة لعاقر‏.‏ وإنما خصه، لأن بقر الوحش إذا دهمها القانص اعتصمت بركوب الرمل، فلا تقدر الكلاب عليها‏.‏ وقوله‏:‏ مخافة، مفعول لأجله‏.‏ قال صاحب اللباب‏:‏ المفعول له علة الإقدام على الفعل، يكون سبباً غائياً كقوله‏:‏

وأغفر عوراء الكريم ادخاره

وسبباً باعثاً ليس غاية يقصد قصدها، نحو قوله - وأنشد شعر العجاج - فالخوف، والزعل، والهول، كل منها سبب باعث على ركوب الجمهور، لا سبب غائي‏.‏ وزعل معطوف على مخافة؛ وهو بالزاي المعجمة والعين المهملة بمعنى النشاط، مصدر زعل من باب فرح؛ والوصف زعل بالكسر‏.‏ قال ذو الرمة يصف ثوراً‏:‏

ولى يهذ انهزاماً وسطها زعل *** جذلان قد أفرخت عن روعه الكرب

وقال طرفة بن العبد‏:‏

وبلاد زعل ظلمانها

والمحبور‏:‏ اسم مفعول من حبرني الشيء إذا سرني؛ من باب قتل‏.‏ ف زعل مصدر مضاف إلى فاعله، فليس مفعولاً لأجله لاختلاف الفاعل، وإنما هو مصدر تشبيهي، أي‏:‏ زعلاً كزعل المحبور، فالمحذوف هو المفعول له‏.‏ وقوله‏:‏ والهول معطوف على مخافة؛ وهو مصدر هاله يهوله هولاً‏:‏ إذا أفزعه‏.‏ قال الشارح‏:‏ فالهول معناه الإفزاع لا الفزع، والثور ليس بمفزع بل هو فزع‏.‏ فالفاعلان مختلفان‏.‏ وقد جوزه بعض النحويين وهو الذي يقوى في ظني وإن كان الأغلب هو الأول‏.‏ه‏.‏

وقد فسره شراح أبيات الكتاب بالفزع، وهو المشهور‏.‏ وعليه فالفاعل متحد‏.‏

ونقل أبو البقاء في شرح الإيضاح الفارسي عن بعضهم أنه معطوف على كل عاقر، أي‏:‏ يركب كل عاقر، ويركب الهول؛ فيكون مصدراً بمعنى اسم المفعول‏.‏

والتهول تفعل منه؛ وهو أن يعظم الشيء في نفسك حتى يهولك أمره‏.‏ والهبور‏:‏ جمع هبر بفتح فسكون، وهو ما اطمأن من الأرض وما حوله مرتفع‏.‏ وروى شارب اللب‏:‏

والهول من تهور الهبور

وقال‏:‏ الهول‏:‏ الخوف‏.‏ والتهور‏:‏ الانهدام‏.‏ أي‏:‏ ولمخافته من تهور الأمكنة المطمئنة‏.‏ وقد استدل صاحب اللب لتعريف المفعول له بزعل المحبور فقط، من هذا الشعر‏.‏ قال شارحه‏:‏ وإنما لم يذكر آخر البيت - ليكون شاهداً أيضاً للمفعول له المعرف باللام، وهو الهول، كما ذكر المعرف بالإضافة - لأنه ذكر في شرح أبيات الكتاب أن الهول عطف على كل؛ وعلى هذا يكون مفعولاً به لا مفعولاً له؛ فلا يكون الإتيان به نصاً في الاستشهاد‏.‏ه‏.‏

قال ابن خلف‏:‏ زعل المحبور عطف على مخافة، والهول معطوف على كل ثم قال‏:‏ والأصل لمخافة، ولزعل المحبور، وللهول، أي‏:‏ لأجل هذه الأشياء يركب كل كثيب‏.‏ هذا كلامه‏.‏

وترجمة العجاج تقدمت في الشاهد الحادي والعشرين‏.‏ وأنشد بعده‏:‏ وهو الشاهد الثامن والسبعون بعد المائة، قول ابن دريد‏:‏

والشيخ إن قومته من زيغه *** لم يقم التثقيف منه ما التوى

على أنه يجوز أن يقال ضربته تقويماً فما استقام، إذ قد يطلق أنه حصل التأثير‏.‏

والتقويم‏:‏ التعديل، يقال‏:‏ قومته تقويماً فتقوّم، ومثله أقامه أي‏:‏ عدله‏.‏ والزيغ‏:‏ الميل، يقال‏:‏ زاغت الشمس تزيغ زيغاً وأزاغه إزاغة أي‏:‏ أماله‏.‏ والتثقيف‏:‏ تعديل المعوج‏.‏ ومنه‏:‏ متعلق بيقم‏.‏ وما‏:‏ موصولة وموصوفة، ويجوز أن تكون مصدرية‏.‏ والتوى‏:‏ تعوج؛ وفاعله ضمير ما على الأول، وضمير الشيخ على الثاني‏.‏ وجملة الشرط والجزاء في محل رفع خبر المبتدأ الذي هو الشيخ‏.‏

وهذا البيت من مقصورة ابن دريد المشهورة‏.‏ وقبل هذا البيت‏:‏

والناس كالنبت‏:‏ فمنه رائق *** غضّ نضير عوده مرّ الجنى

ومنه ما تقتحم العين فإن *** ذقت جناه انساغ عذباً في اللها

يقّوم الشارخ من زيغانه *** فيستوي ما انعاج منه وانحنى

والشيخ إن قومته من زيغه ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ البيت

كذلك الغصن يسير عطفه *** لدناً شديد غمزه إذا عسا

من ظلم الناس تحاموا ظلمه *** وعز فيهم جانباه واحتمى

وهم لمن لان لهم جانبه *** أظلم من حيات أنباث السفى

والناس كلاًّ إن فحصت عنهم *** جميع أقطار البلاد والقرى

عبيد ذي المال وإن لم يطعمو *** من غمره في جرعة تشفي الصدى

وهم لمن أملق أعداء وإن *** شاركهم فيما أفاد وحوى

وتقتحمه العين‏.‏ تفوته وتزدريه‏.‏ واللها بالفتح‏:‏ جمع لهاة، وهي ما بين منقطع اللسان إلى منقطع القلب من أعلى الفم‏.‏ والشارخ‏:‏ الشاب‏.‏ والزيغان‏:‏ العدول عن الحق؛ وانعاج‏:‏ انعطف‏.‏ وما‏:‏ فيه الوجهان‏.‏

وقوله‏:‏ كذلك الغصن، الإشارة راجعة إلى تقويم الشارخ والشيخ‏.‏ واللدن‏:‏ اللين، والطريّ‏.‏ والغمز‏:‏ العصر باليد والهزّ‏.‏ وعسا‏:‏ صلب واشتد؛ في القاموس‏:‏ النبث كفلس‏:‏ النبش، وقيل‏:‏ التراب المستخرج من البئر‏.‏ والسفى بسين مهملة مفتوحة وفاء‏:‏ التراب؛ وه1ا من قولهم في المثل‏:‏ أظلم من حية لأنها لا تحفر جحراً، وإنما تأتي إلى جحر قد احتفره غيرها فتدخل فيه وتغلب عليه؛ فكل بيت قصدت إليه هرب أهله منه وخلّوه لها‏.‏

وهذه القصيدة طويلة، عدتها مائتان وتسعة وثلاثون بيتاً، لها شروح لا تحصى كثرة‏.‏ وأحسن شروحها شرح العلامة الأديب أبي علي محمد بن أحمد بن هشام بن إبراهيم اللخمي السبتي‏.‏ وقد شرحتها أنا شرحاً موجزاً مع إيضاح واف، وتبيين شاف، في أيام الشبيبة‏.‏ نفع الله به‏.‏

ومدح ابن دريد بهذه المقصورة الشاه وأخاه أبا العباس إسماعيل ابني ميكال يقال‏:‏ إنها اشتملت على نحو الثلث من المقصور‏.‏ وفيها كل مثل سائر، وخبر نادر؛ مع سلاسة ألفاظ، ورشاقة أسلوب، وانسجام معان يأخذ بمجامع القلوب‏.‏

وهذه نبذة من نسبه وأحواله‏.‏ وهو أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد وينتهي نسبه إلى الأزد بن الغوث، ومنه إلى قحطان، وهو أبو قبائل اليمن‏.‏

ولد بالبصرة في سنة ثلاث وعشرين ومائتين، ونشأ بها، وتعلم فيها؛ ثم ارتحل منها مع عمه عند ظهور الزنج، وسكن عمان، وأقام اثنتي عشرة سنة؛ ثم عاد إلى البصرة‏؟‏، وسكن بها زماناً؛ ثم خرج إلى نواحي فارس، وصحب ابني ميكال - وكانا يومئذ على عمالة فارس - وعمل لهما كتاب الجمهرة، وقلداه ديوان فارس، فكانت الكتب لا تكتب إلا عن رأيه، ولا ينفذ أمر إلا بعد توقيعه‏.‏ وكان سخيّاً متلافاً لا يمسك درهماً‏.‏ ومدحهما به1ه القصيدة المقصورة، فوصلاه بعشرة آلاف درهم‏.‏ ثم انتقل من فارس إلى بغداد، ودخلها سنة ثمان وثلثمائة، بعد عزل ابني ميكال وانتقالهما إلى خراسان‏.‏ ولما دخل بغداد أنزله علي بن محمد في جواره وأفضل عليه، وعرّف الخليفة المقتدر العباسي مكانه من العلم، فأجرى عليه في كل شهر خمسين ديناراً، ولم تزل جارية عليه إلى حين وفاته‏.‏ وتوفي يوم الأربعاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من شعبان سنة إحدى وعشرين وثلثمائة ببغداد‏.‏

وكان مواظباً على شرب الخمر، قال أبو منصور الأزهري‏:‏ دخلت عليه فرأيته سكران فلم أعدل إليه‏.‏ وقال ابن شاهين‏:‏ كنا ندخل عليه فنستحي مما نرى عنده من العيدان والشراب المصفى‏.‏ وعرض له في رأس التسعين من عمره فالج وسقي الترياق فبرئ وصحّ ورجع إلى أفضل أحواله‏.‏ ثم عاوده الفالج بعد عام، لغذاء ضار تناوله، فكان يحرك يديه حركة ضعيفة، وبطل من محزمه إلى قدميه؛ فكان إذا دخل عليه داخل ضج وتألم لدخوله‏.‏

قال تلميذه أبو علي القالي‏:‏ كنت أقول في نفسي‏:‏ إن الله عز وجلّ عاقبه لقوله في هذه المقصورة، يخاطب الدهر‏:‏

مارست من لو هوت الأفلاك من *** جوانب الجو عليه ما شكا

وكان يصيح من الداخل عليه صياح من ينخس بالمسالأّ - والداخل بعيد - وكان مع هذه الحال ثابت الذهن كامل العقل‏.‏ وعاش مع الفالج عامين‏.‏ وكنت أسأله عن أشياء في اللغة فيردّ بأسرع من النفس، بالصواب‏.‏ وقال لي مرة - وقد سألته عن بيت - لئن طفئت شحمتا عينيّ لم تجد من يشفيك من اعلم‏.‏ وكان ينشد كثيراً‏:‏

فواحزني أن لاحياة لذيذة *** ولا عمل يرضى به الله صالح

وأشهر مشايخه‏:‏ أبو حاتم السجستاني، والرياشي، وعبد الرحمن ابن أخي الأصمعي، والأشنانداني‏.‏ وسمع الأخبار من عمه الحسن بن دريد، ومن غيره‏.‏ وله من التآليف‏:‏ الجمهرة في اللغة، وكتاب السرج واللجام، وكتاب الأنواء، وكتاب المجتنى وهذه الكتب عندي والحمد لله والمنة‏.‏‏.‏ وله كتاب الاشتقاق، وكتاب الخيل الكبير والصغير، وكتاب الملاحن وكتاب روّاد العرب، وكتاب الوشاح وغير ذلك‏.‏

وكان واسع الرواية لم ير أحفظ منه؛ وكانوا يقرؤون عليه دواوين العرب فيسابق إلى إتمامها، من حفظه‏.‏ وله شعر رائق‏.‏ قال بعض المتقدمين‏:‏ ابن دريد أعلم الشعراء وأشعر العلماء‏.‏

قال المسعوديّ في مروج الذهب‏:‏ كان ابن دريد ببغداد ممن برع في زماننا في الشعر‏.‏ وانتهى في اللغة؛ وقام مقام الخليل بن أحمد فيها، وأورد أشياء في اللغة لم توجد في كتب المتقدمين‏.‏ وشعره أكثر من أن يحصى‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو الشاهد التاسع والسبعون بعد المائة، وهو من شواهد سيبويه‏:‏

وأغفر عوراء الكريم ادخاره *** وأعرض عن شتم اللئيم تكرما

على أنه يرد على من اشترط التنكير في المفعول له هذا البيت وبيت العجاج السابق‏.‏ فإن قوله‏:‏ ادخاره مفعول له، وهو معرفة‏.‏

قال الأعلم‏:‏ نصب الادخار والتكرم على المفعول له؛ ولا يجوز مثل هذا حتى يكون المصدر من معنى الفعل المذكور قبله، فيضارع المصدر المؤكد لفعله، كقولك‏:‏ قصدتك ابتغاء الخير‏.‏ فإن كان المصدر لغير الأول لم يجز حذف حرف الجر، لأنه لا يشبه المصدر المؤكد لفعله، كقولك‏:‏ قصدتك لرغبة زيد في ذلك، لأن الراغب غير القاصد انتهى‏.‏

لكن المبرد أخرجهما من هذا الباب وجعلهما من باب المفعول المطلق، قال في الكامل‏:‏ قوله‏:‏ وأغفر عوراء الكريم ادخاره، أي‏:‏ أدخره ادخاراً‏.‏ وأضافه إليه، كما تقول‏:‏ ادخاراً له‏.‏ وكذكلك قوله‏:‏ تكرماً، غنما أراد لتكرم‏:‏ فأخرجه مخرج أتكرم تكرماً انتهى‏.‏

وأغفر‏:‏ أستر؛ يقال‏:‏ غفر الله لي، أي‏:‏ ستر عني العقوبة فلم يعاقبني‏.‏ والعوراء بالفتح‏:‏ الكلمة القبيحة؛ ومنه العورة للسوءة وكل ما يستحى منه‏.‏ والادخار افتعال من الذخر‏.‏

وروى أبو زيد في نوادره‏:‏

وأغفر عوراء الكريم اصطناعه

وهو افتعال أيضاً من الصنع، وهو الفعل الجميل‏.‏ والإعراض عن الشيء‏:‏ الصفح عنه‏.‏ يقول‏:‏ إذا بلغتني كلمة قبيحة عن رجل كريم قالها فيّ، غفرتها له لأجل كرمه وحسبه، وأبقيت على صداقته وادّخرته ليوم أحتاج إليه فيه - لأن الكريم إذا فرط منه قبيح ندم على ما فعل، ومنعه كرمه أن يعود إلى مثله - وأعرض عن ذم اللئيم، إكراماً لنفسي عنه‏!‏ وما أحسن قول طرفة بن العبد‏:‏

وعوراء جاءت من أخ فرددته *** بسالمة العينين طالبة عذرا‏!‏

وهذا من أحكام صنعة الشعر ومقابلة الألقاب بما يشاكلها ويتمّم معانيها وذلك أنه لما كان الكلام القبيح يشبّه بالأعور العين؛ سمّي ضدّه سالم العينين‏.‏

وقد أورد صاحب الكشاف هذا البيت في التفسير، عند قوله تعالى حذر الموت على أنه مفعول له، معرّفاً بالإضافة، كما في ادّخاره‏.‏

وهو من قصيدة طويلة لحاتم الطائيّ، تتعلق بالكرم ومكارم الأخلاق‏.‏ وهي مسطورة في الحماسة البصرية وغيرها‏.‏ وهي هذه‏:‏

وعاذلتين هبّتا بعد هجعة *** تلومان متلافاً مفيداً ملوّما

تلومان لمّا غوّر النجم ضلّة *** فتىً لا يرى الإنفاق في الحمد مغرما

فقلت وقد طال العتاب عليهم *** وأوعدتماني أن تبينا وتصرما

ألا لا تلوماني على ما تقدّم *** كفى بصروف الدّهر لمرء محكما

فإنكما لا ما مضى تدركانه *** ولست على ما فاتني متندّما

فنفسك أكرمها فإنك إن تهن *** عليك فلن تلقى لها الدهر مكرما

أهن للذي تهوى التلاد فإنه *** إذا مت كان المال نهباً مقسّما

ولا تشقين فيه فيسعد وارث *** به حين تغشى أغبر الجوف مظلما

يقسمه غنماً ويشري كرامة *** وقد صرت في خطّ من الأرض أعظما

قليلاً به ما يحمدنك وارث *** إذا نال مما كنت تجمع مغنما

تحلّم عن الأدنين واستبق ودّهم *** ولن تستطيع الحلم حتى تحلّما

وعوراء قد أعرضت عنها فلم تضر *** وذي أود قوّمته فتقوما

وأغفر عوراء الكريم ادّخاره ***‏.‏‏.‏‏.‏البيت

ولا أخذل المولى وإن كان خاذل *** ولا أشتم ابن العمّ إن كان مفحما

ولا زادني عنه غناي تباعد *** وإن كان ذا نقص من المال مصرما

وليل بهيم قد تسربلت هوله *** إذا الليل بالنكس الدنيء تجهما

ولن يكسب الصعلوك حمداً ولا غنى *** إذا هو لم يركب من الأمر معظما

لحا الله صعلوكاً مناه وهمّه *** من العيش أن يلقى لبوساً ومغنماً

ينام الضحى حتى إذا نومه استوى *** تنبّه مثلوج الفؤاد مورّماً

مقيماً مع المثرين ليس ببارح *** إذا نال جدوى من طعام ومجثما

ولله صعلوك يساور همّه *** ويمضي على الأحداث والدهر مقدما

فتى طلبات لا يرى الخمص ترحة *** ولا شبعة إن نالها عدّ مغنما

يرى الخمص تعذيباً وإن يلق شبعة *** يبت قلبه من قلة الهم مبهما

إذا ما رأى يوماً مكارم أعرضت *** تيمم كبراهن ثمّت صمّما

ويغشى إذا ما كان يوم كريهة *** صدور العوالي فهو مختضب دما

يرى رمحه ونبله ومجنّه *** وذا شطب عضب الضريبة مخذما

وأحناء سرج فاتر ولحامه *** عتاد فتى هيجاً وطرفاً مسوّما

فذلك إن يهلك فحسنى ثناؤه *** وإن عاش لم يقعد ضعيفاً مذمّما

قوله‏:‏ هبتا، أي‏:‏ استيقظتا‏.‏ وغور النجم، أي‏:‏ غابت الثريا‏.‏ وقوله‏:‏ ضلة، هو قيد في اللوم؛ لامه ضلة‏:‏ إذا لم يوفق للرشاد في لومه‏.‏ والمغرم بالفتح الغرامة‏.‏ وأغبر الجوف‏:‏ القبر، ومثله‏:‏ خط من الأرض‏.‏ وقوله‏:‏ حتى تحلما، أي‏:‏ تتحلم، أي‏:‏ تتكلف الحلم‏.‏ وهذا البيت من شواهد مغني اللبيب‏.‏

وقوله‏:‏ فلم تضر، من ضار يضير ضد نفع‏.‏ والأود بفتحتين‏:‏ الاعوجاج‏.‏ والنكس، بكسر النون‏:‏ الرديء؛ وأصله السهم الذي كسر فوقه‏.‏ وتجهّم‏:‏ كلح وجهه‏.‏ ولحا الله‏:‏ قبح الله‏.‏ والصعلوك بالضم‏:‏ الفقير‏.‏ ومثلوج الفؤاد‏:‏ البليد الذي ليست فيه حرارة من الهمة‏.‏ والمجثم، بفتح الميم وكسر المثلثة‏:‏ مكان الجثوم، وهو بروك الطائر‏.‏

وقوله‏:‏ ولله صعلوك، تعجب ومدح، يقال‏:‏ عند استغراب الشيء واستعظامه؛ أي‏:‏ هو صنع الله ومختاره، إذ له القدرة على خلق مثله‏.‏ ويساور‏:‏ يواثب‏.‏ وهمه، أي‏:‏ عزمه، مفعول‏.‏ وقوله‏:‏ ويمضي على الأحداث، أي‏:‏ لا يشغله الدهر وحوادثه في حالة إقدامه على ما يريد‏.‏

وقوله‏:‏ فتى طلبات، إشارة إلى علو همته‏.‏ والخمص بالفتح‏:‏ الجوع‏.‏ والترحة‏:‏ ضد الفرحة‏.‏ والشبعة‏:‏ المرة من الشبع‏.‏ وثمت‏:‏ حرف يعطف الجمل‏.‏ ورمحه، وما عطف عليه‏:‏ مفعول أول ليرى؛ وعتاد هو المفعول الثاني‏.‏ ذا شطب، هو السيف، جمع شطبة‏:‏ وهي الطريقة في متن السيف‏.‏ والمجنّ بالكسر‏:‏ الترس والدرقة‏.‏ والعضب‏:‏ القاطع‏.‏ والضريبة‏:‏ موضع الضرب‏.‏ والمخذم، بكسر أوله وبالمعجمتين‏:‏ السيف القاطع؛ وبإعجام الثاني فقط، من الخذم وهو القطع السريع‏.‏ والأحناء‏:‏ جمع حنو بالكسر، يطلق على ما فيه اعوجاج من القتب والسرج وغيرهما‏.‏ والقاتر، بالقاف وبالمثناة الفوقية‏:‏ الواقي والحافظ، لا يعقر ظهر الفرس‏.‏ وعتاد، بالفتح‏:‏ العدّة‏.‏ وطرفا‏:‏ معطوف على رمحه الذي هو أول مفعولي يرى؛ وهو الكريم من الخيل‏.‏ والمسوّم‏:‏ المعلم تشهيراً لعتقه ولكرمه، من السومة وهي العلامة، والمسيب في المرعى ولا يركب إلا في الحروب‏.‏ وقوله‏:‏ فذلك إن يهلك الخ، الحسنى‏:‏ مصدر كالبشرى؛ وقيل‏:‏ اسم للإحسان‏.‏

والمعنى‏:‏ لله فقير يواثب همته ويمضي مقدماً على الدهر، والحال أنه فتى طلبات يتجدد طلبه كل ساعة، والدهر يسعفه بمطلوبه لجدّه ورشده، ولا يرى الجوع شدة ولا الشبع غنيمة، لعلو همته‏.‏ فإن يهلك فله ثناء حسن، وإن يعش يعش ممدّحاً معزّزاً‏.‏

واستشهد صاحب الكشاف بهذه الأبيات، من قوله‏:‏ صعلوك يساور همه، إلى آخر الأبيات السبعة عند قوله‏:‏ أولئك على هدى من ربهم على أن اسم الإشارة، وهو أولئك، مؤذن بأن المذكورين قبله أهل لاكتساب ما بعده للخصال التي عدّت لهم‏.‏ فإنه تعالى ذكر المتقين بقوله هدىً للمتقين ثم عدّد لهم خصالاً من كونهم يؤمنون بالغيب، ويقيمون الصلاة وينفقون مما رزقهم الله، ويؤمنون بما أنزل على رسوله، ويوقنون بالآخرة‏.‏ ثم عقّب ذلك بقوله‏:‏

فذلك إن يهلك فحسنى ثناؤه

وحاتم هو حاتم بن عبد الله بن سعد بن الحشرج بن امرئ القيس بن عدي بن أخزم الطائيّ الجواد المشهور، وأحد شعراء الجاهلية‏.‏ ويكنى أبا عدي، وأبا سفّانة، بفتح السين وتشديد الفاء‏.‏ وابنه أدرك الإسلام وأسلم‏.‏

وقد مشت ترجمته في الشاهد الأربعين‏.‏

أخرج أحمد في مسنده، عن ابنه عديّ قال‏:‏ قلت يا رسول الله‏:‏ إن أبي كان يصل الرحم ويفعل كذا وكذا، قال‏:‏ إن أباك أراد امراً فأدركه، يعني‏:‏ الذكر‏.‏

وكانت سفّانة بنته أتي بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت‏:‏ يا محمد، هلك الوالد، وغاب الوافد؛ فإن رأيت أن تخلي عني، ولا تشمت بي أحياء العرب‏!‏ فإن أبي سيد قومه‏:‏ كان يفك العاني، ويحمي الديار، ويفرّج عن المكروبن ويطعم الطعام، ويفشي السلام، ولم يطلب إليه طالب قط حاجة فردّه‏!‏ أنا ابنة حاتم طيّ‏!‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ يا جارية، هذه صفة المؤمن‏!‏ لو كان أبوك إسلامياً لترحّمنا عليه‏!‏ خلّوا عنها، فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق‏!‏ قال ابن الأعرابي‏:‏ كان حاتم من شعراء الجاهلية، وكان جواداً يشبه جوده شعره، ويصدق قوله فعله؛ وكان حيثما نزل عرف منزله؛ وكان مظفراً‏:‏ إذا قاتل غلب، وإذا غنم أنهب، وإذا ضرب بالقداح فاز، وإذا سابق سبق، وإذا أسر أطلق؛ وكان أقسم بالله‏:‏ لا يقتل واحد أمه، وكان إذا أهل رجب نحر في كل يوم عشرة من الإبل وأطعم الناس واجتمعوا عليه‏.‏

وكان أول ما ظهر من جوده، أن أباه خلفه في إبله - وهو غلام - فمر به جماعة من الشعراء، فيهم عبيد بن الأبرص وبشر بن أبي خازم، والنابغة الذبياني، يريدون النعمان بن المنذر؛ فقالوا له‏:‏ هل من قرى‏؟‏ ولم يعرفهم فقال‏:‏ أتسألوني القرى وقد رأيتم الإبل والغنم‏؟‏ انزلوا‏!‏ فنزلوا، فنحر لكل واحد منهم، وسألهم عن أسمائهم؛ فأخبروه؛ ففرق فيهم الإبل والغنم، وجاء أبوه، فقال‏:‏ ما فعلت‏؟‏ قال‏:‏ طوقتك مجد الدهر، تطويق الحمامة، وعرفه القضية‏.‏

فقال أبوه‏:‏ إذاً لا أساكنك بعدها أبداً، ولا أوويك‏!‏ فقال حاتم‏:‏ إذاً لا أبالي‏!‏‏.‏

وأخبار كرم حاتم كثيرة وشهيرة‏.‏ ونذكر قضية قراه بعد موته‏:‏ روى محرز مولى أبي هريرة قال‏:‏ مر نفر من عبد القيس بقبر حاتم، فنزلوا قريباً منه‏.‏ فقام إليه رجل يقال له‏:‏ أبو الخيبري، وجعل يركض برجله قبره، ويقول‏:‏ اقرنا‏.‏ فقال بعضهم‏:‏ ويلك‏!‏ ما يدعوك أن تعرض لرجل قد مات‏؟‏‏!‏ قال‏:‏ إن طيئاً تزعم أنه ما نزل به أحد إلا قراه‏.‏ ثم أجنهم الليل، فناموا‏.‏ فقام أبو الخيبري فزعاً، وهو يقول‏:‏ واراحلتاه‏!‏ فقالوا له‏:‏ مالك‏؟‏ قال‏:‏ أتاني حاتم في النوم وعقر ناقتي بالسيف، وأنا أنظر إليها؛ ثم أنشدني شعراً حفظته، يقول فيه‏:‏

أبا الخيبري وأنت امرؤ *** ظلوم العشيرة شتامها

اتيت بصحبك تبغي القرى *** لدى حفرة قد صدت هامها

أتبغي لي الذم عند المبيت *** وحولك طي وأنعامها

فإنا سنشبع أضيافن *** ونأتي المطي فنعتامها

فقاموا وإذا ناقة الرجل تكوس عقيراً؛ فانتحروها وباتوا يأكلون، وقالوا قرانا حاتم حياً وميتاً‏!‏ وأردفوا صاحبهم وانطلقوا سائرين، وإذا برجل راكب بعيراً ويقود آخر قد لحقهم، وهو يقول‏:‏ أيكم أبو الخيبري‏؟‏ قال الرجل‏:‏ أنا‏.‏ قال‏:‏ فخذ هذا البعير، أنا عدي بن حاتم، جاءني حاتم في النوم وزعم أنه قراكم بناقتك، وأمرني أن أحملك؛ فشأنك والبعير؛ ودفعه إليهم وانصرف‏.‏ وإلى هذه القضية أشار ابن دارة الغطفاني في قوله يمدح عدي بن حاتم‏:‏

أبوك أبو سفانة الخير لم يزل *** لدن شب حتى مات في الخير راغبا

به تضرب الأمثال في الشعر ميت *** وكان له إذ ذاك حياً مصاحبا

قرى قبره الأضياف إذ نزلوا به *** ولم يقر قبر قبله والدهر راكبا

باب المفعول معه

أنشد فيه، وهو الشاهد الثمانون بعد المائة

جمعت وفحشاً غيبة ونميمة *** ثلاث خلال لست عنها بمرعوي

على أن أبا الفتح ابن جني أجاز تقدم المفعول معه على المعمول المصاحب، متمسكاً بهذا البيت، والأصل جمعت غيبة وفحشاً‏.‏ والأولى المنع، رعاية لأصل الواو‏.‏ والشعر ضرورة‏.‏

أقول‏:‏ ذكره ابن جني في الخصائص قال‏:‏ ولا يجوز تقديم المفعول معه على الفعل، من حيث كانت صورة هذه الواو صورة العاطفة، ألا تراك لا تستعملها إلا في الموضع الذي لو شئت لاستعملت العاطفة فيه‏!‏ فلما ساوقت حرف العطف قبح‏:‏ والطيالسة جاء البرد، كما قبح‏:‏ وزيد قام عمرو؛ لكنه يجوز جاء والطيالسة البرد كما تقول‏:‏ ضربت وزيداً عمراً؛ قال‏:‏

جمعت وفحشاً غيبة ونميمة

وقال ابن الشجري في أماليه‏:‏ ولا يجوز تقديم التابع على المتبوع للضرورة إلا في العطف دون الصفة والتوكيد والبدل‏.‏ ثم قال‏:‏ وإنما جاز في الضرورة تقديم المعطوف، لأن المعطوف غير المعطوف عليه، والصفة هي الموصوف، وكذلك المؤكد عبارة عن المؤكد، والبدل إما أن يكون هو المبدل وبعضه، وشيئاً ملتبساً به‏.‏ ومثله‏:‏

ألا يا نخلة من ذات عرق *** عليك ورحمة الله السلام‏.‏‏.‏اه

فجعله من باب تقديم المعطوف، لا من باب تقديم المفعول معه، لأنه هو الأصل‏.‏ لكن في تنظيره نظر، فإن قوله ورحمة الله، معطوف عند سيبويه على الضمير المستكن في الظرف أعني قوله عليك كما تقدم بيانه‏.‏ وقوله‏:‏ خلالاً، ثلاثاً، بدل من قوله غيبة ونميمة وفحشاً، جمع خلة بالفتح كالخصلة لفظاً ومعنى‏.‏ وارعوى عن القبيح‏:‏ رجع عنه‏.‏

وهذا البت من قصيدة جيدة في بابها، ليزيد بن الحكم بن أبي العاص الثقفي‏.‏ قال الأصبهاني في الأغاني‏:‏ عاتب في هذه القصيدة ابن عمه عبد الرحمن بن عثمان بن أبي العاص، وله قصائد أخر يعاتب فيها أخاه عبد ربه بن الحكم‏.‏

وأورد هذه القصيدة القالي في أماليه والأصبهاني في أغانيه، وابن الشجري في أماليه مختصرة‏.‏ وفي رواية كل واحد منهم ما ليس في رواية الآخر‏.‏

وأوردها أبو علي الفارسي بتمامها في المسائل البصرية وهذه روايته - لكنه قال‏:‏ قالها لأخيه من أبيه وأمه عبد ربه بن الحكم‏.‏ وليس كذلك كما يظهر منها‏:‏

تكاشرني كرهاً كأنك ناصح *** وعينك تبدي أنّ صدرك لي دوي

لسانك لي أري وغيبك علقم *** وشرّك مبسوط وخيرك ملتوي

تفاوض من أطوي طوى الكشح دونه *** ومن دون من صافيته أنت منطوي

تصافح من لاقيت لي ذا عداوة *** صفاحاً وعني بين عينك منزوي

أراك إذا استغنيت عنا هجرتن *** وأنت إلينا عند فقرك منضوي

إليك انعوى نصحي ومالي كلاهم *** ولست إلى نصحي ومالي بمنعوي

أراك إذا لم أهو أمراً هويته *** ولست لما أهوى من الأمر بالهوي

أراك اجتويت الخير مني وأجتوي *** أذاك فكلّ مجتو قرب مجتوي

فليت كفافاً كان خيرك كله *** وشرك عني ما ارتوى الماء مرتوي

لعلك أن تنأى بأرضك نية *** وإلا فإني غير أرضك منتوي

تبدّل خليلاً بي كشكلك شكله *** فإني خليلاً صالحاً بك مقتوي

فلم يغوني ربي فكسف اصطحابن *** ورأسك في الأغوى من الغيّ منغوي

عدوّك يخشى صولتي إن لقيته *** وأنت عدوي ليس ذاك بمستوي

وكم موطن لولاي طحت كما هوى *** بأجرامه من قلّة النيق منهوي

نداك عن المولى ونصرك عاتم *** وأنت له بالظلم والغمر مختوي

تودّ له لو ناله ناب حية *** ربيب صفاة بين لهبين منحوي

إذا ما بنى المجد ابن عمك لم تعن *** وقلت ألا بل ليت بنيانه خوي

كأنك إن قيل ابن عمك غانم *** شج وعميد وأخو مغلة لوي

تملأت من غيظ عليّ فلم يزل *** بك الغيظ حتى كدت في الغيظ تنشوي

فما برحت نفس حسود حشيته *** تذيبك حتى قيل هل أنت مكتوي

وقال النطاسيون إنك مشعر *** سلالاً ألا بل أنت من حسد جوي

فديت امرأً لم يدو للنأي عهده *** وعهدك من قبل التنائي هو الدوي

دمعت وفحشاً غيبة ونميمة *** خلالاً ثلاثاً لست عنها بمرعوي

أفحشاً وخبّاً واختناء على الندى *** كأنك أفعى كدية فرّ محجوي

فيدحو بك الداحي إلى كل سوءة *** فيا شرّ من يدحو بأطيش مدحوي

أتجمع تسآل الأخلاء ما لهم *** ومالك من دون الأخلاء تحتوي

بدا منك غش طالما قد كتمته *** كما كتمت داء ابنها أم مدّوي

قوله‏:‏ تكاشرني الخ، يقال‏:‏ كاشر الرجل الرجل‏:‏ إذا كشر كل واحد منهما لصاحبه، وهو أن يبدي له أسنانه عند التبسم، وكرهاً بضم الكاف وفتحها‏:‏ مصدر وضع في موضع الحال؛ والدوي‏:‏ وصف من الدوى بالفتح والقصر‏:‏ المرض، دوي يدوى كفرح يفرح؛ ودوي صدره أيضاً، أي‏:‏ ضغن‏.‏

وقوله‏:‏ لسانك أي أري الخ، الأري‏:‏ العسل؛ والعلقم‏:‏ الحنظل؛ وحذف أداة التشبيه للمبالغة‏.‏

قال أبو علي في الإيضاح الشعري‏:‏ اللسان هنا إما بمعنى الجارحة، وبمعنى الكلام‏:‏ فإن جعلته من هذا أمكن أن يكون لي متعلقاً به، كقولك‏:‏ كلامك لي جميل؛ وإن جعلته بمعنى الجارحة احتمل ظان تريد المضاف فتحذفه، فإذا حذفته احتمل وجهين‏:‏ أحدهما أن يكون من قبيل صلى المسجد، أي‏:‏ أهله؛ والآخر أن تحذف المضاف فتجعل اللسان كالكلام، كما قالوا اجتمعت اليمامة، أي أهل اليمامة، فجعلوهم كأنهم اليمامة؛ فإذا جعلته كذلك أمكن أن يتعلق به لي، كما يتعلق بالوجه الأول‏.‏

ويجوز أن يكون لي، وقوله‏:‏ أري، الخبر، مثل‏:‏ حلو حامض‏.‏ ويجوز فيه أن تجعله خبراً لقوله‏:‏ لسانك، ونريد به الجارحة، لأنك تقول‏:‏ فلان لطيف اللسان، تريد به الكلام وتلقي الناس بالجميل، فيحتمل ضمير المبتدأ، وتجعل أرياً بدلاً من الضمير في لي‏.‏

ويجوز أن يكون لي حالاً، كأنه أراد‏:‏ لسانك أري لي فيكون صفة فلما تقدم صار حالاً‏.‏‏.‏فإن قلت‏:‏ إن أري معناه مثل أري، فالعامل معنى فعل لم يجزتقدم الحال عليه‏!‏ فأقول‏:‏ لك أن تضمر فعلاً يدل عليه هذا الظاهر، فينصب الحال عنه؛ كأنه قال‏:‏ لسانك يستحلى ثابتاً لي‏.‏ ولأنها كالظرف، فعمل فيها المعنى‏.‏ وأن تجعل اللسان حدثاً أشبه للتشاكل لأنه عطف عليه، وهو الغيب اه‏.‏

وقوله‏:‏ تفاوض من أطوي الخ، فاوضه‏:‏ إذا أظهر له أمره؛ وأطوي‏:‏ ضد أنشر، والطوى‏:‏ الجوع، وهو مصدر طوي يطوى من باب فرح، وهو مفعول أطوي، أي‏:‏ تظهر أمرك لمن أخفي عنه جوعي، أي‏:‏ تنبسط في الكلام عند عدو ولا أظهره على شيء من اموري، وتنقبض عن أصدقائي ولا تظهرهم على شيء من أمرك نكاية فيّ‏.‏

وقوله‏:‏ وعني بين عينك منزوي، بين‏:‏ مرفوع بالابتداء لأنه اسم لا ظرف؛ ومنزوي‏:‏ خبره؛ وعني‏:‏ متعلق به، يقال‏:‏ انزوت الجلدة في النار، أي‏:‏ اجتمعت وتقبضت، وزوى ما بين عينيه، أي‏:‏ قبضها‏.‏

وقوله‏:‏ وأنت إلينا عند فقرك منضور، انضوى إليه‏.‏ لجأ وانضم إليه وقوله‏:‏ إليك انعوى نصحي ومالي، انعوى‏:‏ بمعنى انعطف وهو مطاوع عويته، أي‏:‏ عطفته‏.‏

وقوله‏:‏ أراك إذا لم أهو أمراً، هوي الشيء يهواه هوىً من باب فرح‏:‏ إذا أحبّه؛ وهوى بالفتح يهوي بالكسر هويّاً، وكذلك انهوى‏:‏ إذا سقط إلى أسفل، وقد جاء في قوله‏:‏

وكم موطن لولاي طحت كما هوى

وقوله‏:‏ أراك اجتويت الخير، اجتواه بالجيم، أب‏:‏ كرهه‏.‏ وقوله‏:‏ فليت كفافاً كان خيرك الخ، يأتي شرحه إن شاء الله تعالى في ليت من أخوات الحروف المشبهة في أواخر الكتاب‏.‏ وقوله‏:‏ لعلك أن تنأى الخ، أي‏:‏ أرجو أن تنأى من أرضك، أي‏:‏ تبعد عنها، من النأي وهو البعد، وإلا، أي‏:‏ وإن لم تنأ، فإني عازم على الرحيل عنها‏.‏ يقال‏:‏ نويت نية وكذلك انتويت، أي‏:‏ عزمت‏.‏

وقوله‏:‏ بك مقتوي، قال في الصحاح‏:‏ القتو‏:‏ الخدمة‏.‏ وقتوت أقتو قتواً ومقتي، أي‏:‏ خدمت‏.‏ يقال‏:‏ للخادم مقتوي - بفاح الميم وتشديد الياء - كأنه منسوب إلى المقتى وهو مصدر‏.‏‏.‏ ويجوز تخفيف ياء النسبة‏.‏

قال أبو علي في الإيضاح الشعري‏:‏ نصب خليلاً بفعل مضمر يدلّ عليه مقتوي، أي‏:‏ أقتوي خليلاً‏.‏ ويأتي شرح هذه الكلمة مفصلة في الشاهد الثالث والخمسين من بعد الخمسمائة‏.‏

وقوله‏:‏ وكم موطن الخ، طاح الرجل يطوح ويطيح‏:‏ إذا هلك‏.‏ والأجرام‏:‏ جمع جرم بالكسر، وهو الجسم، كأنه جعل أعضاءه أجراماً توسعاً، أي‏:‏ سقط بجسمه وثقله‏.‏ وليس معناه ها هنا الذنوب كما فسره ابن الشجريّ به، فإنه غير مناسب‏.‏ والنيق بكسر النون‏:‏ أرفع الجبل‏.‏ وقلّته‏:‏ ما استدق من رأسه‏.‏ وسيأتي، إن شاء الله تعالى، شرح هذا البيت في باب الضمائر‏.‏

وقوله‏:‏ نداك عن المولى، الندى‏:‏ الجود‏.‏ والمولى‏:‏ ابن العم‏.‏ وعن متعلقة بعاتم، أي‏:‏ بطيء؛ يقال‏:‏ عتم من باب ضرب إذا أبطأ وقصّر‏.‏ ونصرك‏:‏ معطوف على نداك؛ وخبره محذوف‏.‏ والغمر، بكسر الغين المعجمة الحقد والغلّ؛ يقال‏:‏ غمر صدره عليّ من باب فرح‏.‏ ومختور بالخاء المعجمة‏:‏ الجائر المسقط‏.‏

وقوله‏:‏ تودّ لو نابه ناب حية، الحية معروفة، تكون للذكر والأنثى، قالوا‏:‏ فلان حية ذكر، والتاء للواحد من الجنس، كبطّة ودجاجة، وهنا بمعنى الذكر بدليل الوصف لربيب، من ربّ فلان ولده بمعنى ربّاه، فعيل بمعنى مفعول‏.‏ والصفاة‏:‏ الصخرة الملساء‏.‏ واللهب، بكسر اللام، ومثله اللصب، قال أبو علي في المسائل البصرية‏:‏ هو الشق في الجبل‏.‏ والمنحوي، بالنون والحاء المهملة‏:‏ المجتمع‏.‏

وقوله‏:‏ ليت بنيانه خوي، يقال‏:‏ خوى المنزل من باب رضى يرضي ورمى يرمي، لغتان، أي‏:‏سقط؛ قال تعالى‏:‏ ‏{‏فهي خاوية على عروشها أي‏:‏ ساقطة على سقوفها‏.‏

وقوله‏:‏ شج وعميد الخ، هو خبر كأن، والشجيّ‏:‏ الحزين المهموم‏.‏ والعميد‏:‏ الذي قد عمده المرض، أي‏:‏ هدّه حتى احتاج إلى أن يعمد، أي‏:‏ يسند فهو فعيل بمعنى مفعول‏.‏ والمغلة يفتح الميم وسكون الغين المعجمة، قال أبو علي‏:‏ علة تكون في الجوف‏.‏ واللوي‏:‏ الذي في جوفه وجع، تقول‏:‏ لوي لوىً كفرح فرحاً‏.‏

وقوله‏:‏ فما برحت نفس حسود الخ، النفس تذكّر وتؤنّث، ولهذا وصفها بالمذكر وأنّث لها الفعل والضمير‏.‏ وحشيتها بالبناء للمفعول والخطاب، من الحشو، يقال‏:‏ حشوت الوسادة وغيرها حشواً‏.‏ وروي حسبتها بضمير المتكلم من الحساب وهو الظن‏.‏

والنطاسيّون‏:‏ العلماء بالطب، الواحد نطاسي‏.‏ ومشعر‏:‏ اسم مفعول، أي‏:‏ ملبس شعاراً، بالكسر، وهو ما ولي الجسد من الثياب‏.‏ والسلال بالضم‏:‏ مرض السل‏.‏ والجوي‏:‏ من الجوى وهو داء للقلب، وفعله من باب فرح‏.‏

وقوله‏:‏ لم يدو للنأي عهده، تقدم تفسير دوي‏.‏ وقوله‏:‏ أفحشاً وخبّاً الخ، الخب بكسر الخاء المعجمة‏:‏ مصدر خببت يا رجل تخب خبّاً، من باب علم‏:‏ إذا خدع ومكر‏.‏ والاختناء بالخاء المعجمة وبعد المثناة الفوقية نون‏.‏ قال أبو علي القاليّ في أماليه‏:‏ هو التقبّض‏.‏ والندى‏:‏ الجود‏.‏ والكدية بالضم‏:‏ الأرض الصلبة‏.‏ وأراد بالأفعى الأفعوان وهو ذكر الحيات، ولهذا أرجع الضمير إليه مذكراً‏.‏ ومحجوي بتقديم المهملة على الجيم، قال أبو علي القاليّ في أماليه نقلاً عن ابن دريد‏:‏ المحجوي المنطوي‏.‏

وقوله‏:‏ فيدحو بك الداحي الخ، الدحو‏:‏ الرمي، يقال‏:‏ ادحه، أي‏:‏ ارمه، ويقال للفرس‏:‏ مر يدحو دحواً، وذلك إذا رمى بيديه رمياً لا يرفع سنبكه عن الأرض كثيراً‏.‏ والسوءة بالفتح‏:‏ القبح والعيب‏.‏ وأطيش من الطيش وهو الخفة‏.‏ ومدحوي، أي‏:‏ مرميّ، بناه من ادحواه لغة في دحاه، أي‏:‏ رماه‏.‏

وقوله‏:‏ كما كتمت داء ابنها أم مدوّي قال الأصمعي في كتاب الصفات، وابن دريد في الجمهرة، وأبو علي القاليّ في أماليه، وابن الأثير في المرصّع واللفظ له‏:‏ أم مدوي يضرب بها المثل لمن يورّي بالشيء عن غيره ويكنى به عنه‏.‏ وأصله أنّ امرأة من العرب خطبت على ابنها جارية، فجاءت أمها إلى أم الغلام لتنظر إليه‏.‏ فدخل الغلام فقال لأمه‏:‏ أدّوي‏!‏ بتشديد الدال على أفتعل‏.‏ فقالت له‏:‏ اللجام معلق بعمود البيت والسرج في جانبه‏.‏ فأظهرت أن ابنها أراد أداة الفرس للركوب فكتمت بذلك زلّة ابنها عن الخاطبة‏.‏ وإنما أراد ابنها بقوله أدّوي، أكل الدّواية بضم الدال، وهي القشرة التي تعلو اللبن والمرق، تقول منه‏:‏ دوّى اللبن بتشديد الواو، وقد ادّويت على وزن افتعلت فأنا مدّو بتشديد الدال فيهما، أي‏:‏ أكلت الدّواية‏.‏ وأنشد هذا البيت‏.‏

وترجمة يزيد بن الحكم تقدمت في الشاهد التاسع في أوائل الكتاب وأنشد فيه، وهو الشاهد الحادي والثمانون بعد المائة

علفتها تبناً وماء بارداً

على أن التقدير‏:‏ وسقيتها ماء‏.‏ وقال ابن هشام في مغني اللبيب‏:‏ وقيل‏:‏ لا حذف، بل ضمّن علفتها معنى أنلتها وأعطيتها‏.‏ وألزموا صحة نحو علفتها ماء بارداً وتبناً، فالتزموه محتجين بقول طرفة‏:‏

لها شنب ترعى به الماء والشجر

وأورده صاحب الكشاف عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفيضوا علينا من الماء ومما رزقكم الله على تضمين أفيضوا معنى ألقوا، ليصح انصبابه على الشراب والطعام معاً، وعلى تقدير بعد أو، أي‏:‏ وألقوا مما رزقكم الله، كهذا البيت في الوجهين وأورد له العلامة الشيرازي والفاضل اليمني صدراً، وجعل المذكور عجزاً هكذا‏:‏

لما حططت الرحل عنها وارد *** علفتها تبناً وماء باردا

وجعله غيرهما صدراً وأورد عجزاً كذا‏:‏

حتى شتت همّالة عيناها

ولا يعرف قائله‏.‏ ورأيت في حاشية نسخة صحيحة من الصحاح أنه لذي الرمة ففتشت ديوانه فلم أجده فيه‏.‏

وشتت بمعنى أقامت شتاء، في القاموس‏:‏ شتا بالبلد أقام به شتاء كشتى وتشتى، وفاعله ضمير مستتر عائد إلى ما عاد إليه ضمير علفتها‏.‏ وهمالة حال من الضمير المستتر، وهو من هملت العين‏:‏ إذا صبت دمعها‏.‏ وعيناها فاعله‏.‏

وزعم العيني أن شتت بمعنى بدت - ولم أر هذا المعنى في اللغة - وأن عيناها فاعله، وهمالة تمييز‏.‏ وهذا خلاف الظاهر‏.‏ فتأمل‏.‏

وأنشد بعد، وهو الشاهد الثاني والثمانون بعد المائة وهو من شواهد سيبويه‏:‏

وما النجدي والمتغور

وهو قطعة من بيت لجميل بن معمر وهو‏:‏

وأنت امرؤ من أهل نجد وأهلن *** تهام وما النجديّ والمتغوّر

على أن الرفع في مثله أولى من النصب على المفعول معه‏.‏

قال المبرد في الكامل‏:‏ قولهم‏:‏ ما أنت وزيد، الرفع فيه الوجه، لأنه عطف اسماً ظاهراً على اسم مضمر منفصل وأجراه مجراه، وليس هنا فعل فيحمل على المفعول، فكأنه قال‏:‏ ما أنت وما زيد، وهذا تقديره في العربية ومعناه، لست منه في شيء، وهذا الشعر كما أصف لك ينشد‏:‏

وأنت امرؤ من أهل نجد وأهلن *** تهام فما النجديّ والمتغوّر

وكذلك قوله‏:‏

تكلّفني سويق الكرم جرم *** وماجرم وما ذاك السويق‏!‏

فإن كان الأوّل مضمراً متصلاً، كان النصب، لئلا يحمل ظاهر الكلام على مضمر؛ تقول‏:‏ مالك وزيداً، فإنما تنهاه عن ملابسته، إذ لم يجز وزيد وأضمرت؛ لأن حروف الاستفهام للأفعال، فلو كان الفعل ظاهراً لكان على غير إضمار، نحو قولك‏:‏ ما زلت وعبد الله حتى فعل، لأنه ليس يريد ما زلت وما زال عبد الله، ولكنه أراد‏:‏ ما زلت بعبد الله، فكان المفعول مخفوضاً بالباء فلما زال ما يخفضه وصل الفعل إليه فنصبه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏واختار موسى قومه سبعين رجلاً ‏.‏

فالواو في معنى مع، وليست بخافضة، فكان ما بعدها على الموضع؛ فعلى هذا ينشد هذا الشعر‏:‏

فما لك والتلدد حول نجد *** وقد غصّت تهامة بالرجال

ولو قلت‏:‏ ما شأنك وزيداً، لاختير النصب، لأن زيداً لا يلتبس بالشأن، لأن المعطوف على الشيء في مثل حاله‏.‏ ولو قلت‏:‏ ما شأنك وشأن زيد، لرفعته، لأن الشأن يعطف على الشأن‏.‏ وهذه الآية تفسر على وجهين من الإعراب‏:‏ أحدهما هذا وهو الأجود فيها، وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأجمعوا أمركم وشركاءكم فالمعنى - والله أعلم - مع شركائكم؛ لأنك تقول‏:‏ جمعت قومي وأجمعت أمري ويجوز أن يكون لما أدخل الشركاء مع الأمر حمله على مثل لفظه لأن المعنى يرجع إلى شيء واحد فيكون كقوله‏:‏

يا ليت زوجك قد غد *** متقلداً سيفاً ورمحا

وقال الآخر‏:‏

شرّاب ألبان وسمن وأقط

انتهى كلام المبرّد، ولجودته سقناه برمّته‏.‏

وقوله‏:‏ وما النجديّ والمتغور، ما مبتدأ‏.‏ والنجدي خبره‏.‏ والمعنى‏:‏ أن أهلي يرتابون بك إذا وجدوك عندهم، لأنك غريب بعيد الدار منهم فينكرون كونك بينهم؛ فيجب أن تتجنب وتعرض‏.‏ تحذّره بني عمها كما يأتي بيانه في الأبيات‏.‏‏.‏‏.‏ وتهام بفتح التاء منسوب إلى التهم بفتحتين، بمعنى التهامة بكسر التاء، وقد بينا هذا مشروحاً في الشاهد الثامن عشر من أوائل الكتاب‏.‏ وتهام خبر عن قوله وأهلنا وإعرابه كقاض‏.‏ ولم يقل تهامون، لأنه نظر إلى لفظ أهل وهو مفرد؛ ويجوز نظراَ إلى المعنى تهامون‏.‏ وقال ابن خلف‏:‏ إنما قال تهام، لأنه اكتفى بالواحد عن الجمع، كقوله‏:‏

كأن عيني فيها الصاب مذبوح

هذا كلامه فتأمله‏.‏

ونجد قال في الصحاح‏:‏ هو من بلاد العرب، وهو خلاف الغور، والغور هو تهامة؛ وكل ما ارتفع من تهامة إلى أرض العراق فهو نجد؛ وهو مذكر، وتقول‏:‏ أنجدنا، أي‏:‏ أخذنا في بلاد نجد‏.‏

وفي المثل‏:‏ أنجد من رأى حضنا، وذلك إذا علا من الغور‏.‏ وحضن محركة‏:‏ جبل‏.‏ والمتغور اسم فاعل من تغور فلان‏:‏ إذا انتسب إلى الغور‏.‏ وغار وغوّر أيضاً بالتشديد‏:‏ إذا أتى الغور؛ قال في المصباح‏:‏ والغور المطمئن من الأرض‏.‏ والغور قيل‏:‏ يطلق على تهامة وما يلي اليمن، وقال الأصمعي‏:‏ ما بين ذات عرق والبحر غور وتهامة، فتهامة أوّلها مدارج ذات عرق من قبل نجد إلى مرحلتين وراء مكة، وما وراء ذلك إلى البحر فهو الغور‏.‏

والبيت من قصيدة‏.‏ وقبله‏:‏

وآخر عهد لي بها يوم ودّعت *** ولاح لها خدّ مليح ومحجر

عشية قالت لا تضيعنّ سرن *** إذا غبت عنا وارعه حين تدبر

وأعرض إذا لاقيت عيناً تخافه *** وظاهر ببغض إن ذلك أستر

فإنك إن عرّضت بي في مقالة *** يزد في الذي قد قلت واش مكثّر

وينشر سرّاً في الصديق وغيره *** يعز علينانشره حين ينشر

وما زلت في إعمال طرفك نحون *** إذا جئت حتى كاد حبك يظهر

لأهلي حتى لامني كل ناصح *** شفيق له قربى لديّ وأيصر

وقطعني فيك الصديق ملامة *** وإني لأعصي نهيهم حين أزجر

وما قلت هذا فاعلمن تجنب *** لصرم ولا هذا بنا عنك يقصر

ولكنني أهلي فداؤك أتقيعليك عيون الكاشحين وأحذر

وأخشى بني عمي عليك وإنم *** يخاف وينقي عرضه المتفكر

وأنت امرؤ من أهل نجد واهلن *** تهام وما النجديّ والمتغور

وطرفك إما جئتنا فاحفظنه *** فزيغ الهوى باد لمن يتبصر

وقد حدثوا أنا التقينا على هوىً *** فكلهم من غلّة الغيظ موقر

فقلت لها‏:‏ يا بثن أوثيت حافظ *** وكل امرئ لم يرعه الله معور

سأمنح طرفي حين ألقاك غيركم *** لكيما يروا أن الهوى حيث أنظر

وأكني بأسماء سواك وأتقي *** زيارتكم والحب لا يتغير

فكم قد رأينا واجداً بحبيبه *** إذا خاف يبدي بغضه حين يظهر

وفي هذه الأبيات استشهاد، ولهذا ذكرناها‏.‏

وترجمة جميل بن معمر العذري تقدمت في الشاهد الثاني والستين‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو الشاهد الثالث والثمانون بعد المائة قول الراعي‏.‏ وهو من شواهد‏:‏

أزمان قومي والجماعة كالذي *** منع الرحالة أن تميل مميلا

على أنه على تقدير‏:‏ أزمان كان قومي والجماعة‏.‏ فالجماعة مفعول معه على تقدير إضمار الفعل‏.‏

قال سيبويه‏:‏ زعموا أنه الراعي كان ينشد هذا البيت نصباً‏.‏ وقال‏:‏ كأنه قال‏:‏ أزمان كان قومي مع الجماعة‏.‏ وحذف كان لأنهم يستعملونها كثيراً في هذا الموضع، ولا لبس فيه ولا تغيير معنى‏.‏

ومثله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واتبعوا ما تتلوا الشاطين على ملك سليمان أراد ما كانت تتلو‏.‏

قال ابن عصفور‏:‏ وإنما حمل على إضمار كان - ولم يحمل على تقدير حذف مضاف إلى قومي، فيكون التقدير‏:‏ أزمان كون قومي والجماعة - لأن المصدر المقدّر بأن والفعل من قبيل الموصولات، وحذف الموصول وإبقاء شيء من صلته لا يجوز‏.‏

فإن قلت‏:‏ ما الدليل على أن قومي من قوله‏:‏ أزمان قومي، محمول على فعل مضمر‏؟‏ قلت‏:‏ لأنه ليس من قبيل المصادر؛ وأسماء الزمان لا يضاف شيء منها إلا إلى مصدر وجملة تكون في معناه، نحو‏:‏ هذا يوم قدوم زيد؛ وقولهم‏:‏ يوم الجمل، ويوم حليمة، فهو على حذف مضاف، أي‏:‏ يوم حرب الجمل ونحوه‏.‏

قال الأعلم‏:‏ وصف ما كان من استواء الزمان واستقامة الأمور، قبل قتل عثمان وشمول الفتنة‏.‏ وأراد التزام قومه الجماعة وتركهم الخروج على السلطان‏.‏ والمعنى‏:‏ أزمان قومي والتزامهم الجماعة وتمسكهم بها كالذي تمسك بالرحالة ومنعها من أن تميل وتسقط‏.‏ والرحالة بالكسر‏:‏ وهي أيضاً السرج‏.‏ ضربها مثلاً اه‏.‏

وهذا البيت من قصيدة طويلة عدّتها تسعة وثمانون بيتاً، للراعي‏.‏ مدح بها عبد الملك بن مروان، وشكا فيها من السعاة؛ وهم الذين يأخذون الزكاة من قبل السلطان‏.‏ وهي قصيدة جيدة، كان يقول‏:‏ من لم يرو لي من أولادي هذه القصيدة وقصيدتي التي أولها‏:‏

بان الأحبة بالعهد الذي عهدوا

- وهي في هذا المعنى أيضاً - فقد عقني‏:‏ وقبل بيت الشاهد‏:‏

أوليّ أمر الله إنا معشر *** حنفاء نسجد بكرة وأصيلا

عرب نرى لله في أموالن *** حق الزكاة منزّلاً تنزيلا

قوم على الإسلام لمّا يمنعو *** ما عونهم ويضّيعوا التهليلا

فادفع مظالم عيّلت أبناءن *** عنا وأنقذ شلونا المأكولا

فنرى عطية ذاك إن أعطيته من ربنا فضلاً ومنك جزيلا

أنت الخليفة حلمه وفعاله *** وإذا أردت لظالم تنكيلا

وأبوك ضارب بالمدينة وحده *** قوماً هم جعلوا الجميع شكولا

قتلوا ابن عفان الخليفة محرم *** ودعا فلم أر مثله مخذولا

فتصدعت من بعد ذاك عصاهم *** شققاً وأصبح سيفهم مسلولا

حتى إذا استعرت عجاجة فتنة *** عمياء كان كتابها مفعولا

وزنت أمية أمرها فدعت له *** من لم يكن غمراً ولا مجهولا

مروان أحزمها إذا نزلت به *** حدب الأمور وخيرها مسؤولا

أزمان رفّع بالمدينة ذيله *** ولقد رأى زرعاً بها ونخيلا

وديار ملك خرّبتها فتنة *** ومشيّدا فيه الحمام ظليلا

إني حلفت على يمين برّة *** لا أكذب اليوم الخليفة قيلا

ما زرت آل أبي خبيب وافد *** يوماً أريد لبيعتي تبديلا

من نعمة الرحمن لا من حيلتي *** إني أعدّ له عليّ فضولا

أزمان قومي والجماعة كالذي *** لزم الرحالة أن تميل مميلا

إلى أن قال‏:‏

إن السعاة عصوك حين بعثتهم *** وأتوا دواهي لو علمت وغولا

إن الذين أمرتهم أن يعدلو *** لم يفعلوا مما أمرت فتيلا

أخذوا المخاض من الفصيل غلبّة *** ظلماً ويكتب للأمير‏:‏ أفيلا

أخذوا العريف فقطّعوا حيزومه *** بالأصبحية قائماً مغلولا

يدعو أمير المؤمنين ودونه *** خرق تجرّ به الرياح ذيولا

قوله‏:‏ قوم على الإسلام لمّا يمنعوا ماعونهم، أورده الزمخشري في تفسيره عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويمنعون الماعون على أن الماعون الزكاة‏.‏ والتهليل‏:‏ هو قول لا إله إلا الله؛ أراد كلمة التوحيد‏.‏

وقوله‏:‏ عيّلت أبناءنا، التعييل‏:‏ سوء الغذاء؛ وعيّل الرجل فرسه‏:‏ إذا سيّبه في المفازة‏.‏ والإنقاذ‏:‏ التخليص‏.‏ والشلو، بالكسر‏:‏ العضو‏.‏ والشكول جمع شكل بفتح أوله وكسره‏:‏ الشبه والمثل؛ أي‏:‏ جعلوا الناس متخالفين بعد أن كانوا متحدين‏.‏ وقوله‏:‏ قتلوا ابن عفان الخ، يقال‏:‏ أحرم الرجل إذا دخل في حرمة لا تهتك‏.‏

قال العسكري في باب ما وهم فيه علماء الكوفيين، من كتاب التصحيف‏:‏ أخبرنا أبو علي الكوكبيّ حدثني محمد بن سويد حدثني محمد بن هبيرة قال‏:‏ قال الأصمعي للكسائي - وهما عند الرشيد -‏:‏ ما معنى قول الراعي‏:‏

قتلوا ابن عفان الخليفة محرما

فقال الكسائي‏.‏ كان محرماً بالحج‏.‏ قال الأصمعي‏:‏ فقوله‏:‏

قتلوا كسرى بليل محرماً فتولى لم يمتع بكفن

هل كان محرماً بالحج‏؟‏‏!‏ قال الرشيد للكسائي‏:‏ يا عليّ إذا جاء الشعر فإياك والأصمعي‏!‏ قال الأصمعي محرم، أي‏:‏ لم يأت ما تستحل به عقوبته؛ ومن ثمّ قيل مسلم محرم، أي‏:‏ لم يحلّ من نفسه شيئاً يوجب القتل‏.‏ وقوله‏:‏ قتلوا كسرى محرما، يعني حرمة العهد الذي كان له في أعناق أصحابه اه‏.‏

وقوله‏:‏ حدب الأمور، جمع أحدب وحدباء، أراد الأمور المشكلة‏.‏ وقوله‏:‏ ما زرت آل أبي حبيب الخ‏.‏ أبو خبيب هو عبد الله بن الزبير، وكان ادعى الخلافة يومئذ في الحجاز‏.‏ وقوله‏:‏ إني أعدّ له عليّ فضولاً، هو جمع فضل بمعنى الإحسان والإنعام، وهو العامل النصب على الظرفية في أزمان ويجوز رفعه على الابتداء والخبر محذوف، أي‏:‏ من الفضول أزمان قومي الخ‏.‏

قال صاحب كتاب التنبيه على ما أشكل من كتاب سيبويه‏:‏ ويجوز رفع أزمان على أنه خبر مبتدأ محذوف، دون إظهار كان، والواو واو مع أيضاً، فتكون إضافة أزمان إلى الجملة الإسمية على هذا‏.‏ ثم قال‏:‏ والأول، أي‏:‏ النصب على الظرفية، احسن وأكثر اه‏.‏ والسعاة‏:‏ جمع ساع، وهو كل من ولي شيئاً على قوم، وأكثر ما يقال ذلك في ولاة الصدقة، أي‏:‏ الزكاة‏.‏ وقوله‏:‏ أخذوا المخاض من الفصيل الخ، المخاض‏:‏ النوق الحوامل، واحدها خلفة‏.‏ والفصيل‏:‏ ابنها‏.‏ والغلبّة، بضم الغين واللام وتشديد الموحّدة، هي الغلبة بالتحريك والتخفيف‏.‏ وهو وظلماً مصدران وقعا حالين من فاعل أخذوا‏.‏ ويجوز نصب الثاني بالأول على أنه مصدر معنويّ‏.‏ والأفيل، ككريم، من أولاد الإبل‏:‏ ما أتى عليه سبعة أشهر، وهو منصوب بيكتب بالبناء للفاعل، أي‏:‏ يكتب الساعي‏.‏ وعلى رواية البناء للمفعول، وهي المشهورة، مفعول لفعل محذوف، أي‏:‏ ويكتب أخذنا من فلان أفيلا‏.‏

وأورد ابن هشام هذا البيت في المغني على أن من فيه للبدل، أي‏:‏ نأخذ المخاض بدل الفصيل‏.‏ قال ابن يسعون‏:‏ ويجوز أن لا تكون بدليّة، بل متعلقة بأخذوا، أي‏:‏ انتزعوه من أمه‏.‏ وروي بدله من العشار فهي بيانية، أي‏:‏ كائنة من العشار‏.‏

وقوله‏:‏ أخذوا العريف، هو رئيس القوم ومتكلمهم‏.‏ والأصبحية هي السياط منسوبة إلى ذي أصبح من ملوك اليمن، فإنه الذي اخترعها‏.‏ والخرق بالفتح‏:‏ الفلاة‏.‏ والراعي اسمه عبيد بن حصين بتصغيرهما ابن معاوية بن جندل بن قطن بن ربيعة بن عبد الله بن الحارث بن نمير بن عامر بن صعصعة‏.‏ وكنية الراعي‏:‏ أبو جندل‏.‏ ولقّب الراعي لكثرة وصفه الإبل والرعاء في شعره‏.‏ وقيل‏:‏ لقب به ببيت قاله‏.‏

وقال ابن قتيبة‏:‏ اسمه حصين بن معاوية‏.‏ وكان يقال لأبيه في الجاهلية معاوية الرئيس‏.‏ وولده وأهل بيته في البادية سادة أشراف‏.‏

وهو شاعر فحل مشهور، من شعراء الإسلام، مقدم‏.‏ ذكره الجمحي في الطبقة الأولى من الشعراء الإسلاميين‏.‏ وكان يقدم الفرزدق على جرير، فاستكفه جرير فأبى، فهجاه بقصيدته البائية التي مطلعها‏:‏

أقلي اللوم عاذل والعتابا

ففضحه بها‏.‏ وتقدم بيانه في ترجمة جرير في أوائل الكتاب‏.‏

وفي المؤتلف والمختلف للآمدي‏:‏ من لقبه الراعي من الشعراء اثنان‏:‏ أحدهما‏:‏ هذا، والثاني‏:‏ اسمه خليفة بن بشير بن عمير بن الأحوص من بني عدي بن جناب‏.‏ وقيل غير ذلك‏.‏